عن المحيطات.. قلب الأرض النابض وتحديات الساحل الموريتاني
زيدان الحضرامي - خديجة الهريم
تُغطي المحيطات 70% من سطح الكرة الأرضية، وتمثل القلب النابض الذي يمد الكوكب بالحياة، حيث تُنتج نصف الأكسجين الذي نتنفسه وتُساعد في تنظيم المناخ العالمي. كما تمثل مصدرًا حيويًا للغذاء ووسيلة لعيش ملايين البشر، فضلاً عن كونها مخزنًا للموارد الطبيعية التي تدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية حول العالم.
وفي مواجهة التهديدات البيئية المتزايدة، تُقام سنويًا العديد من الفعاليات الرامية إلى تعزيز المحافظة عليها، ولعل أبرزها الفعاليات والأنشطة التي تصاحب اليوم العالمي للمحيطات، الذي يشكل فرصة للتوعية بأهمية هذه المسطحات المائية وضرورة الحفاظ عليها من التلوث والاستنزاف.
ففي العام 2009 بدأ رسميًا الاحتفال باليوم العالمي للمحيطات تحت مظلة الأمم المتحدة، بعد طرح الفكرة لأول مرة في مؤتمر ريو دي جنيرو، المنعقد في الثالث من يونيو حتى الرابع عشر منه عام 1992. شاركت في المؤتمر 172 حكومة، منها 108 دول أرسلت رؤساءها أو رؤساء حكوماتها لتمثيلها في الحدث.
طرحت إذن الأمم المتحدة قضية المحيطات على طاولة النقاش أمام زعماء العالم، لتتشكل رؤية عالمية هدفها إيجاد حلول مستديمة لكل التحديات التي تواجهها المحيطات.
اليوم العالمي للمحيطات: “شعار وتوجهات”
منذ بدء الاحتفال به رسميًا بعد أن أقر المؤتمرون ذلك، حمل اليوم العالمي للمحيطات شعارات عكست أهمية الحفاظ على البيئة البحرية، وتعزيز الوعي العالمي بالتحديات التي تواجهها المحيطات. خلال السنوات الأخيرة، تراوحت شعارات اليوم العالمي للمحيطات لتعكس التحديات المتزايدة التي تواجهها وحاجة العالم الماسة إلى التحرك لحمايتها. ولنأخذ أمثلة على السنوات الخمس الأخيرة: “المحيطات: الحياة والمصادر”، “المحيطات: الحياة والمستقبل”، “إحياء المحيطات: العمل الجماعي من أجل المحيط”، “المحيطات: الحياة والمصدر”، “كوكب المحيط: المد والجزر تتغير… حان الوقت لوضع المحيط أولًا”، و”إيقاظ أعماق جديدة”.
المحيطات بمثابة القلب النابض الذي يمد الكوكب بالحياة، حيث تُنتج نصف الأكسجين الذي نتنفسه وتُساعد في تنظيم المناخ العالمي.
المتمعن في هذه الشعارات التي حملها اليوم الدولي للمحيطات يلاحظ عمق العلاقة بين المحيطات وحياة البشر ومستقبلهم. عبارات مثل “المحيطات: الحياة والمصدر” و”المحيطات: الحياة والمستقبل” تؤكد أن المحيطات ليست فقط موطنًا للتنوع البيولوجي، بل هي مصدر أساسي للحياة على كوكب الأرض.
أما شعارات مثل “إحياء المحيطات: العمل الجماعي من أجل المحيط” و”حان الوقت لوضع المحيط أولًا” فتُبرز أهمية التعاون الدولي واتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المحيطات من التحديات البيئية.
هذه الرسائل تلخص مسؤوليتنا المشتركة في إيقاظ الوعي العالمي والبدء بحلول مستدامة تضمن استمرارية هذا المورد الحيوي. ومن الرؤية العالمية انبثقت خطط محلية للحفاظ على المحيطات، ولم تكن موريتانيا بمنأى عن ذلك.
كنوز بحرية غنية وثروة بيئية فريدة
موريتانيا دولة عربية إفريقية تطل على المحيط الأطلسي بساحل يقدر بـ 750 كيلومترًا، يمتد من الرأس الأبيض شمالًا إلى منطقة “انجاگو” جنوبًا. تُعد هذه السواحل واحدة من أغنى مناطق العالم بالثروات السمكية والتنوع البيولوجي الفريد، حيث تتمتع بمزايا بيئية استثنائية تُحفز نمو وتكاثر الحياة البحرية.
ومن بين هذه المزايا:
-ظاهرة الأبولينغ (Upwelling): تُعرف بظاهرة صعود التيارات المائية الباردة من أعماق المحيط إلى السطح، فهي محملة بالمغذيات الأساسية، ما يخلق بيئة خصبة لنمو العوالق النباتية والكائنات الحية الدقيقة، وبالتالي وفرة الأسماك وتنوعها.
-التيارات البحرية: يلتقي التيار الكناري البارد القادم من الشمال بالتيار الغيني الحار القادم من الجنوب، ما يُعزز تواجد أصناف متنوعة من الأسماك والكائنات البحرية التي تتميز بها السواحل الموريتانية عن غيرها من السواحل العالمية.
-تحتضن السواحل الموريتانية محميات بيئية ذات أهمية عالمية، مثل حوض آرگين، ومحمية جاولينغ، والرأس الأخضر. محميات تُشكل بيئات آمنة لتكاثر الأسماك والطيور البحرية والنظم البيئية الحساسة. لكن هذا الثراء البيئي البيولوجي الفريد يواجه تحديات عديدة.
من التلوث إلى الاستنزاف
وعلى الرغم من وجود هذه المميزات، تواجه السواحل الموريتانية تحديات بيئية كبرى تهدد التوازن البحري والنظم الإيكولوجية البحرية. ربما أبرزها، وليس للحصر:
-التلوث البحري: يتسبب النشاط البشري العشوائي في تراكم النفايات على الشواطئ، والتي تُشكل خطرًا على الكائنات البحرية. ونتذكر هنا مثالًا كنا شاهدين عليه في إحدى الفعاليات التي تنظم بالتزامن مع اليوم العالمي للبحار، حيث نظمت عدة جمعيات بيئية فعالية لتنظيف شاطئ نواكشوط. جمع المتطوعون نحو 90 طنًا من النفايات في غضون ساعة واحدة، وهو ما يوضح حجم المشكلة.
-الصيد الجائر: استنزاف الثروة السمكية بسبب الأنشطة غير القانونية، مثل استخدام السفن العملاقة والشباك الجارفة، التي تُلحق أضرارًا جسيمة بالبيئات البحرية.
-وبحسب ما يرى متابعون للشأن البيئي، فإن استخراج الغاز الطبيعي يؤثر على البيئة البحرية من خلال التلوث الناتج عن التسربات الغازية والنفطية (إن حدث ذلك)، والتي تلوث المياه وتضر بالكائنات البحرية. كما أن عمليات الحفر والتفجير تؤدي إلى تدمير الموائل الطبيعية، مثل الشعب المرجانية، وتنتج ضوضاء تحت الماء تؤثر على الكائنات التي تعتمد على الصوت للتواصل.
تواجه السواحل الموريتانية تحديات بيئية كبرى تهدد التوازن البحري والنظم الإيكولوجية البحرية، منها: التلوث البحري، الصيد الجائر، التغير المناخي.
بالإضافة إلى ذلك، تسهم الانبعاثات الناتجة عن هذه العمليات في تغير المناخ، مما يؤثر على درجات حرارة المحيطات وتوازن النظام البيئي البحري.
-التغير المناخي: يؤدي الاحتباس الحراري إلى اضطراب التيارات البحرية، مما يؤثر على أنماط هجرة الأسماك وتراجع مخزون الثروة السمكية، بحسب ما يرى مراقبون للشأن البيئي. هي إذًا تحديات كثيرة، تساهم فيها العديد من العوامل، منها: غياب الرقابة مع وجود ترسانة قانونية غير مفعلة، بالإضافة إلى عقلية أصحاب المصلحة المهتمين بخيرات المحيط واقتصاده.
وفي حديث لنا مع الخبير البيئي يحيى ببانة حول هذا الموضوع، قال: “إن التغيرات البيئية تشكل خطرًا على استدامة المحيطات”، مضيفًا أن “المياه الموريتانية تتميز بتنوعها البيولوجي النادر، لكن الإفراط في الصيد والتلوث البحري يُهددان الثروة السمكية”.
وأضاف: “فالمحيطات لها فوائدها البيئية؛ فهي تعادل التوازن الحراري وتولد الأكسجين على هذه الأرض التي نتنفس عليها ونتغذى على ما تجود به علينا هذه المحيطات. فمخزونها الغذائي يتجدد ما لم نفرط نحن كبشر في تلويث محيطنا. وعلينا جميعًا أن نتحرك بجدية لوضع سياسات صارمة لحماية البحار وضمان استمراريتها للأجيال القادمة”.
تسعى الحكومات الموريتانية من خلال تنفيذ السياسات والاستراتيجيات إلى صون الموارد البحرية والساحلية، ومع ذلك لا تبدو الجهود المبذولة حتى اللحظة كافية لحماية السواحل الموريتانية من مخاطر جمة تهددها.
التحديات التي تواجه المحيط الموريتاني والحلول المقترحة
لحماية البيئة البحرية وضمان استدامتها، يرى مراقبون للشأن البيئي ومهتمون به ضرورة فرض تشريعات صارمة وسنّ قوانين تنظم الصيد وتحدّ من الأنشطة المضرّة بالبيئة البحرية. كما يؤكدون على أهمية الوعي البيئي وإشراك المجتمع في جهود حماية المحيطات، خاصة الشباب وطلاب المدارس والجامعات، مع التركيز على أهمية البحث العلمي ودعم الدراسات حول التغيرات المناخية وتأثيرها على النظم البحرية.
إضافةً إلى ذلك، يُشدد على تفعيل الترسانة القانونية المتعلقة بهذا الشأن، وكذلك العمل على إدارة والحفاظ على المحميات البحرية، وتطوير مشاريع تنموية صديقة للبيئة داخلها، لجعل السكان المحليين أكثر حرصًا على حماية المحيط. وتعمل موريتانيا في إطار إقليمي ودولي للحفاظ على البيئة البحرية، ووقّعت على اتفاقيات بهذا الشأن، لعل أبرزها اتفاقية أبيدجان (التعاون في حماية وتنمية البيئة البحرية والساحلية لغرب إفريقيا).
موريتانيا واتفاقية أبيدجان: التزام إقليمي لحماية البيئة البحرية
في الثالث والعشرين من مارس عام ألف وتسعمائة وواحد وثمانين، كان ميلاد اتفاقية أبيدجان التي جاءت من أجل التعاون وحماية وتنمية البيئة البحرية والشاطئية في منطقة غرب ووسط إفريقيا.
تولدت هذه الاتفاقية من الحاجة إلى اعتماد مقاربة إقليمية لدرء وتخفيض ومكافحة تلوث الوسط البحري والمياه الشاطئية ومياه الأنهار ذات الصلة في غرب ووسط إفريقيا. دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في الخامس من مايو عام ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين. تعتبر اتفاقية أبيدجان إطارًا قانونيًا إقليميًا يوفر تدخلات للتعاون الوطني والإقليمي في مجال حماية وتثمين المناطق البحرية والشاطئية في المنطقة.
اتفاقية أبيدجان تمثل إطارًا قانونيًا إقليميًا يوفر تدخلات للتعاون الوطني والإقليمي في مجال حماية وتثمين المناطق البحرية والشاطئية في المنطقة.
فهي تتيح التعاون العلمي والتكنولوجي، بما في ذلك تبادل المعلومات والخبرات للتعرف على القضايا البيئية وتسييرها في مكافحة التلوث في حالات الطوارئ. وتُعتبر موريتانيا من أوائل الدول الموقّعة على الاتفاقية، حيث تم ذلك في الثاني والعشرين من يونيو في نفس العام الذي وُقّعت فيه اتفاقية أبيدجان، وصادقت عليها بعد ذلك في الثامن عشر من نوفمبر عام ألفين وعشرة.
ختامًا… وفي سعي الجميع نحو محيطات آمنة ومستدامة، ليست مجرد مسطحات مائية، بل هي أساس الحياة على الأرض. أدوار هذه المحيطات تتجاوز توفير الغذاء إلى ضمان التوازن المناخي واستمرار الحياة على هذا الكوكب.
الأمر يتطلب منا، حكومةً وشعبًا ومجتمعًا وصحافة، تضافر الجهود للحد من مخاطر باتت تهدد حياتنا إذا لم نَعِ أهمية المحافظة على سلامة ونظافة شواطئنا. فالمجتمعات الساحلية، المعروفة محليًا بـ”الأيمراكن”، مطالبة أولًا بمضاعفة الجهود لحماية هذه الموارد الطبيعية والحيوية من الاستنزاف والتلوث. كما أننا مسؤولون جميعًا عن ذلك، وبهذه الجهود نضمن أمننا الغذائي ورفاه أجيالنا القادمة.