في صبيحة السادس سبتمبر 2012 أي قبل 12 سنة، انتقل الى رحمة الله ومغفرته الأستاذ البحّاثة محمد ولد مولود ولد داداه (الشنافي).
انتهز هذه الذكرى الأليمة لألتمس من كريم فضلكم التضرع إلى المولى عزّ وجلّ أن يشمل الفقيد برحمته الواسعة ويسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
رفقة هذا التذكير نصان يتعلقان بالمرحوم:
أولهما بعنوان: “الأمم التي لا تكرم عظماءها أمم لا تستحق البقاء” قدمته خلال حفل تكريم لهذا الأستاذ في حياته مساء السادس سبتمبر 2006.
وثانيهما بعنوان: “في ذكرى الشنافي، فقيد الثقافة والبحث” نشرته يوم السادس سبتمبر 2020 بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل هذه الشخصية المتميزة.
من اليمين: بيير بونت، الشنافي، محمدو امين، ميشيل كنيار
الأمم التي لا تكرم عظماءها أمم لا تستحق البقاء
(كلمة ألقيت في حفل تكريم الأستاذ محمد ولد مولود ولد داداه، بفندق الخاطر، نواكشوط، في 6 سبتمبر 2006)
إن هذا النوع من التظاهرات العلمية لمِمّا يثلج الصدر ويشعر بدفء احتضان المجموعة الوطنية لمن حقهم الاحتضان وتقديرها لمن حقهم التقدير، فالأمم التي لا تكرم عظماءها هي أمم لا تستحق البقاء.
والباحث محمد ولد مولود ولد داداه (الشنافي) الذي نجتمع اليوم لتكريمه هو أحد أولئك العظماء الذين وهبوا أعمارهم لأوطانهم، ولكن في صمت ودون صخب دعائي.
فالمكرم قد امتاز من بين الباحثين الموريتانيين بخصال قلّ أن تجتمع لغيره: شمولية في الرؤية، وصرامة في المنهج، وغنى في الأدوات، وأصالة في الانتماء، وصدق في البحث عن الحقيقة، وترفع عن فتات الحياة الفانية، لذلك فليس غريبا أن يغدو الأب الروحي لأجيال عديدة من الطلبة والباحثين والأساتذة نهلوا من معينه مباشرة أو بواسطة، فله علينا جهد المقل وهو الإشادة المستحقة بما عودنا عليه من طول نفس في البحث وتفانٍ فيِ التنقيب وتحرٍّ في الأحكام وتوخٍّ للموضوعية..
وبالتأكيد فقد ترك الأستاذ محمد ولد مولود ولد داداه بصمات لا تنمحي في نفوس وعقول من ساعدهم الحظ في التعرف عليه والنهل من علمه الغزير لأن شخصية هذا الباحث الفذة وكارزميته العلمية وموسوعيته المعرفية وسلوكه السهلَ/ الممتنعَ، كل ذلك تضافر ليرسخ تلك البصمات ويجعل خلاصات واستنتاجات وآراء وأحكام الشنافي تقيم في مكان ما من عقلك الباطن مكونة جزءا لا يتجزأ من تصورك للمواضيع وطريقة تناولك إياها. فالرجل بما تمتع به من عمق نظر ونفاذ بصيرة وصبر على جمع شتات المادة التاريخية، استطاع أن يكون النبراس الهادي في متاهات البحث التاريخي بعموم المنطقة وليس على مستوى بلادنا وحسب.
وقد يخيل إلى من يقابل محمد ولد مولود ولد داداه للمرة الأولى أو من لا يعرفه أن في الرجل سمة من غرور وكبر، لكن هذا التصور سرعانما يتبدد مفصحا عن شخصية مركبة تجمع بين تواضع العالم وحنان الأب وانزواء المتصوف وتأمل الفيلسوف وكبرياء ابن الصحراء الذي لا يفرط تحت أي ظرف مهما كان في كرامته، ولا يتنازل عما يعتقد أنه الحقيقة.
ولعل باحث الإسلاميات الفرنسي دني كريل (Dénis Grill) الشيخ داود، وهو متصوف طريقة وتخصصا، خير من يلخص ما أوتي الرجل من مدارك فذة وقدرة خارقة على متابعة مستجدات المعرفة حين وصف ظاهرة الشنافي –أثناء زيارة قادتنا صيف 2001 إلى صومعته العلمية في عين السلامة- بقوله: “… مفارقة أخرى من مفارقات موريتانيا: أن ينزوي الباحث في هذه القرية النائية، ويطلع اطلاعا دقيقا على أحدث النظريات في مجالات العلوم الإنسانية“. تلك هي ظاهرة الشنافي التي تجد امتدادها العالمي في ما نشر خلال العقود الماضية من بحوث رصينة في مجلات غربية عديدة.
وننتهز المناسبة لنوجه باسم مخبر الدراسات والبحوث التاريخية بجامعة نواكشوط نداء إلى كل المهتمين بالبحث والغيورين على تاريخ هذا البلد مؤسسات وأفرادا من أجل مضافرة الجهود في مسعى هدفه مساعدة هذا الباحث الفذ على إخراج نتائج أبحاثه كتابة بعد أن أكملها جمعا وأنضجها تصورا.
فبخروج الموسوعة الصامتة التي تضمنت تقييدات وتعليقات وخلاصات وإضبارات الشنافي إلى حيز النشر ورفوف المكتبات نكون قد ساهمنا في حفظ وتثمين ثمرة أعماله خلال خمسة عقود أو يزيد.
وفي الأخير، فإننا نقدم الشكر الجزيل لمؤسسة آل البيت التيكماطينية على مبادرتها القيمة والتفاتتها البسيطة في شكلها والعميقة في دلالتها ونأمل أن تحذو حذوها مؤسسات وهيئات أخرى –عمومية وخصوصية- سعيا إلى تكريم واحتضان الكفاءات والرموز الوطنية تقديرا للجهد وتشجيعا للإبداع ودفعا للإنتاج.
البروفسور محمدو امين
في ذكرى (الشنافي) فقيد الثقافة والبحث العلمي
انقضت اليوم الأحد 6 سبتمبر 2020، ثماني سنوات كاملة على رحيل المرحوم بإذن الله تعالى محمد ولد مولود وداداه (الشنافي) عن دارنا الفانية. ففي صبيحة 6 سبتمبر 2012. ترجل هذا العملاق ليترك فراغا رهيبا في حياتنا الفكرية والعلمية تحريا في النقل وصرامة في المنهج وتدقيقا في الوقائع وبصيرة في فحص المسلمات…
لقد كان رحيل هذه القامة خسارة كبيرة للباحثين وللمجموعة العلمية بشكل عام. ولكن الخاسر الأكبر كان مركز الدراسات والبحوث حول الغرب الصحراوي (CEROS) الذي شرفه المرحوم خلال سنوات عمره الأخيرة بتغذية أنشطة مختلفة شملت محاضرات وطاولات مستديرة ونقاشات، إلخ، مما منح المركز سمعة طيبة وقيمة علمية وثقافية بارزة.
ومع أنني شخصيا تشرفت خلال السنوات الأخيرة بالإشراف على بحث جاد بعنوان: محمد ولد مولود ولد داداه وإسهاماته التاريخية”، أعدته الطالبة مديحة بنت محمد للحصول على شهادة الماستر في التاريخ، وتعميقا للحفر أعمق في تراث هذا العلَم الفذ اتفقت مع الطالبة نفسها خلال السنة الحالية (2020) على مواصلة الموضوع في أطروحة الدكتوراه التي عنونتها بــ”دور نخبة جيل التأسيس في تدوين التاريخ الموريتاني (الشنافي نموذجا)”؛ مع ذلك فإني أحس -وكذلك زملائي الباحثين في مركز الدراسات والبحوث حول الغرب الصحراوي- بالخجل حيال الإعراض الذي يلقاه هذا الرجل الذي خدم بعبقريته الفذة الدولة الموريتانية موظفا، ونافح عن أطروحاتها في المحافل الدولية خبيرا، ثم كرس أغلب عمره بعد ذلك لخدمة البحث في تاريخها، بل وتاريخ المنطقة عموما، فكان جل الباحثين في حقل الدراسات الإنسانية عالة عليه في كثير من أطروحاتهم.
إن توجيه البحث إلى تسجيل تراث الرجل وتنظيم معطياته، يعد اليوم مهمة وطنية نبيلة ينبغي أن توضع على طاولة الاهتمام العمومي، كما أن تكريمه يشكل جزءا من وفاء البلد لرموزه العظمية، فلا أقل -بعد الاستفادة من علمه الغزير الذي أودعه مقالاته وتدويناته وذاكرة مريديه- من رفع اسمه مشخصا ضمن المعالم والشواهد الماثلة أمام الناشئة إحياء للقيم المعرفية والرمزية التي تتراجع اليوم أمام بريق المظاهر المادية.
ننتهز هذه الفرصة لتقديم ثلاثة اقتراحات بسيطة في شكلها عميقة في دلالتها تخليدا لذكرى رائد البحث التاريخي الرصين في موريتانيا، يدخل كل واحد منها في دائرة اختصاص جهة معينة:
- أن تسمي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أكبر مدرجات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نواكشوط العصرية “مدرج المرحوم محمد ولد مولود ولد داداه”.
- أن تطلق وزارة الثقافة والصناعة التقليدية والعلاقات مع البرلمان على قاعة الباحثين بالمكتبة الوطنية اسم “قاعة المرحوم محمد ولد مولود ولد داداه”.
- أن يختار المجلس الجهوي لمدينة نواكشوط أحد شوارع العاصمة ويسميه “شارع المرحوم محمد ولد مولود ولد داداه”.
هذه عناصر ضمن أخرى، نعتقد أنها تمثل أضعف الإيمان في الوفاء لرمز من رموز هذا البلد. فقد وضع الشنافي بشهادة الجميع بصمات شاهدة في حياتنا العامة مؤسسيا وعلميا وفكريا، مكرسا حياته لخدمة موريتانيا بكل تفان وتواضع وتوار عن بهارج الأضواء ومنافع المال العام.