عندما وقف الأستاذ الدكتور محمدن ولد أحمدو أمام طلبته الألمان، أحس بمرارة الغربة، لشعوره بأنه يدرس فصولا في الرياضيات، لا يوجد من يدرسها في موريتانيا. شعوره بالغربة والمسؤولية زاد من ارتباطه بموريتانيا، فهو يطل عليها من مهجره في مدينة غيسن الألمانية، متابعا لأخبارها ومشغولا بأسئلة التنمية فيها. ولا تفوت الأستاذ أية فرصة لمد يد العون لبلده الأم، خصوصا في تدريس الرياضيات ودعم الباحثين والطلبة النابغين.
إليكم حكاية الأستاذ محمدن، من المذرذرة في الجنوب الموريتاني إلى غيسن شمال فرنكفورت الألمانية.
البدايات
في بيت من بيوت المعرفة والذكاء1، وفي العام 1967، ولد الأستاذ محمد ولد أحمدو لأسرة متعلمة، فعمه البشير ولد سيد سالم ظل لسنوات أحد أشهر مديري مدارس نواكشوط.
فى أكتوبر 1973 التحق الطفل محمدن بالمدرسة رقم7 بالعاصمة نواكشوط2، وتصادف دخوله مع إصلاح تعليمي، بموجبه أصبح التعليم مزدوجا، والسنة الأولى معربة تماما، وقصرت فيه مدة التعليم الابتدائي إلى ست سنوات بدل سبع، والتعليم الثانوي كذلك من سبع إلى ست سنوات.
خاض الطفل محمدن غمار المدرسة الابتدائية، إلى أن ختمها بتفوقه في مسابقة دخول الإعدادية سنة 1979 وكان في الرتبة الثانية على مستوى الوطن.
كان الطفل محمدن منذ نعومة أظافره شغوفا بالرياضيات والفلسفة،3 ففي أروقة الثانوية الوطنية، وخلال ثمانينيات القرن الماضي، كان الفتى محمدن ولد أحمدو يجيب على سؤال المستقبل بالقول إنه يريد أن يكون دكتورا في الرياضيات وفي الفلسفة.
ويبدو أنه اختار الرياضيات، وليس من العسير استيعاب اختياره لذلك المسار، لجملة أسباب منها أن شعبة الرياضيات، كانت ولا تزال، أكثر جاذبية للطلاب الموريتانيين الأذكياء، كما أن مساراتها فيما بعد الباكالوريا أوضح في نظر تلاميذ الثانوية.
تونس وعباس بحري
في العام 1984 حصل الطالب حينها محمدن على شهادة الباكالوريا، شعبة الرياضيات. ثم التحق بالمدرسة العليا للتعليم، حتى تخرجه منها 1988 وكان الأول على دفعته.
ولتفوقه حصل على منحة لإكمال دراساته العليا في تونس، ومن مدرستها الوطنية للمهندسين ناقش الطالب الباحث محمدن رسالته للماستر في الرياضيات، يوم 19 فبراير 1993، وكانت بعنوان:
Équations elliptiques à croissance critique
بدأ الأستاذ محمدن أطروحته للدكتوراه مع البروفسور عباس بحري، وهو عالم رياضيات تونسي، حاصل على جائزة فيرما وجائزة لانجفن وجائزة التميز العلمي من جامعة روتغرز في نيوجرسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وظل أستاذا فيها لما يناهز 30 سنة.
نوقشت الأطروحة يوم 13 نوفمبر 1998، وحملت عنوان:
Contribution topologique des points critiques à l’infni dans un problème variationnel non compact4
المساهمة الطبولوجية للنقاط الحرجة عند اللانهاية في مسألة تغايرية غير متراصة.
البروفسور محمدن في مقال له عن أستاذه الراحل عباس بحري
نقاط مضيئة في الطريق إلى لانهاية العلم
ولأن طالب العلم الحق لا يشبع، فقد أسرج الدكتور محمدن خيله ميمما فضاءات علمية أعمق في مجال الرياضيات، فقادته خطاه، في مسار ما بعد الدكتوراه، إلى المدرسة الدولية العليا للدراسات المتقدمة في مدينة تريستي الإيطالية. وهناك عند سفوح جبال الألب عاش الدكتور محمدن مع الرياضيات باحثا لمدة 14 شهرا.
في الولايات المتحدة الأمريكية، في تسعينيات القرن الماضي
في الأول من أغسطس 2001، التحق الدكتور محمدن بجامعة بون الألمانية، مفتتحا مسارا أكاديميا في بلاد العلم والفلسفة والشعراء، بلاد أنجبت غوته وديفيد هيلبرت وألبرت أينشتاين.
ظل محمدن لثلاث سنوات “متعاونا علميا” مع جامعة بون، قبل أن ينتقل منها، في الأول من أبريل 2004، ملتحقا بهيئة التدريس بجامعة تيوبنغن، وخلال العام التالي لالتحاقه بها أعد أطروحته للأستاذية (التأهيل الجامعي) من جامعة باريس السابعة، وحملت أطروحته عنوان:
On some nonlinear partial differential equations arising from conformal geometry
وفي الأول من فبراير 2006 نال الأستاذ محمدن أعلى شهادة علمية يمكن الحصول عليها، Habilitation (Venia Legendi) ويعتبر الحصول عليها في ألمانيا صعبا للغاية، ما يفسر قلة الحاصلين عليها، وكانت أطروحته للأستاذية تحمل عنوان:
Metrics of prescribed curvature on manifolds with boundaries: Existence, Compactness and Multiplicity5
من محاضرة له في كلية العلوم والتقنيات بجامعة نواكشوط، ديسمبر 2022
جولة في عالم التحليل و”التفاضل” الرياضياتي
عند إلقاء نظرة على صفحات الأستاذ في المنصات البحثية العالمية مثل صفحته في Researchgate أو صفحته6 في الباحث العلمي لغوغل، أو عند إلقاء نظرة على سيرته الذاتية نلاحظ كلمات مفتاحية من قبيل:
Analysis Algebraic Topology Mathematical Analysis Differential Geometry Noncompact variational problems Nonlinear Partial Differential Equations Functional Analysis Partial Differential Equations Pure Mathematics Real Analysis
يقوم مشروع البروفسور محمدن على مسألة جوهرية، وهى بناء نظرية متكاملة لدراسة المسائل التغايرية غير المتراصة Problèmes variationnels non compacts ثم على المعادلات التفاضلية ذات التسارع الحرج Équations différentielles à croissance critique
و هى تنبنى على إيجاد علاقة وطيدة بين مجالات مختلفة من الرياضيات كالطبوبولجيا الجبرية topologie algébrique و الهندسة التفاضلية géométrie différentielle و حساب التغاير le calcul des variations
و قد طبقت هذه النظرية و جاءت بنتائج مهمة وملفتة فى مجالات مختلفة، كالميكانيكا السماوية la mécanique céleste ، وكيمياء الكوارنتم la chimie quantique بالإضافة إلى مسائل فى الهندسة التطابقية، فيزياء الكم و نظرية النسبية.
من محاضرة له في كلية العلوم والتقنيات بجامعة نواكشوط، ديسمبر 2022
تميز وإشعاع علمي
في عام 2001 أعلنت الدولة الموريتانية إنشاء جائزة تقديرية تحمل اسم “جائزة شنقيط” وهي أرفع جائزة تمنحها الدولة الموريتانية في مجالات العلوم والآداب والدراسات الإسلامية.
وقد فاز بها البروفسور محمدن عام 2012 عن بحث حمل عنوان:
دور ظواهر الانفجار و اللاخطيات الحرجة فى الهندسة التفاضلية7
Phénomènes de blow up et non linéarité critique dans des problèmes de géométrie conforme
2013 الأول من اليسار، على هامش حفل استلام جائزة شنقيط
وبالإضافة لعمله وتدريسه8 في جامعة غيسن الألمانية، فإنه يتلقى باستمرار دعوات في مؤسسات أكاديمية وبحثية في عدد من دول العالم، مثل إيطاليا وفرنسا والصين، بالإضافة لكرسي عباس بحري9 في كلية العلوم بالعاصمة التونسية.
كما ينتمي الأستاذ محمدن لعدد من كبريات الهيئات البحثية المتخصصة في الرياضيات، مثل اختياره مسؤولا علميا بالمركز الدولي للرياضيات البحتة والمطبقة.10
عند أسوار سور الصين العظيم
يشرف الأستاذ محمدن على مشاريع بحثية ممولة من طرف مؤسسات متخصصة، منها مشروع مع المؤسسة الألمانية للبحوث Deutsche Forschungsgemeinschaft ويحمل عنوان:
Wirbeldynamik und Blow-up-Phänomene in zwei Dimensionen11
العلاقة بين مسائل الدوامة وظواهر الانفجار ثنائية الأبعاد
ومن مشاريعه كذلك:
Vierter Ordnung Uniformisierungssätze für 4-dimensionale Riemannsche Mannigfaltigkeiten
Konforme Metrik konstanter Q-Krümmung auf 4-dimensionalen Mannigfaltigkeiten (B07)
ويعد النجاح فى الحصول على تمويلات بهذا المستوى، معيارا أساسيا فى تقييم البحث العلمى و مدى اهتمام الوسط الرياضى به.
الطريق إلى الامتياز والتبريز
شكل مع صديقه عالم الرياضيات يحيى ولد حامدٌ وآخرين، نواة من العلماء والأساتذة الباحثين الذين كونوا قوة اقتراح من مجتمع العلم، تهدف إلى مناقشة الساسة وصناع القرار الوطني، فيما يفيد ميادين التعليم والبحث العلمي، وقد انعقد أول مؤتمر لباحثي المهجر عام 2002 بنواكشوط، بتنسيق من عالم الرياضيات المرحوم يحيى ولد حامدٌ.
بعد الانقلاب على الرئيس معاوية ولد سيداحمد الطائع، الذي حكم موريتانيا لأكثر من 20 سنة، لاحت في الفترة الانتقالية (2005 – 2007) بوادر إصلاح من حكام موريتانيا الجدد، فقرر الأساتذة العلماء، وعلى رأسهم يحيى ولد حامدٌ ومحمدن ولد أحمدو عقد لقاءات مع المسؤولين، من ضمنها لقاء مع الوزير الأول في تلك الحقبة، السيد سيدي محمد ولد بوبكر.
كان مما اقترحه الأساتذة العلماء إنشاء مدارس امتياز والتأسيس للتبريز الجامعي، حيث تتأسس فكرة الأساتذة على الحاجة لرعاية المتميزين وخلق بيئة امتياز تسمح برعاية العباقرة، دون تمييز ودون حصر لمسارات العبقرية والإبداع. وفي الجانب الثاني التأسيس لمسارات تبريز تسمح بإنشاء مدارس المهندسين، وتغذي البيئة العلمية والتعليمية بمدرسين أكفاء ومميزين، قادرين على تدريس طبقات من الأذكياء والمميزين.
وعلى الرغم من أن أفكار الأساتذة العلماء لم تنفذ بشكل آني، ولا بالمستوى الذي خططوا له، لكنهم بذروا بذرة أنتجت لاحقا مدارس الامتياز التي أنشأتها الدولة الموريتانية في 2009، ولاحقا الأقسام التحضيرية لكبريات مدارس المهندسين ومدرسة بوليتكنيك.
في إحدى محاضراته بنواكشوط، ديسمبر 2022.
ترقية الرياضيات في موريتانيا
بعد رحيل صديقه، عالم الرياضيات يحيى ولد حامدٌ، في 11 مارس 2011، ووفاء لذكراه، أسس البروفسور محمدن مع عدد من أصدقاء ولد حامدٌ، جائزة لرعاية النابغين في الرياضيات وتشجيعهم على مواصلة البحث ومقاساة دروب الرياضيات الوعرة.
ترأس البروفسور محمدن أول مجلس علمي للجائزة، وخلال 10 سنوات، بين 2014 و2024 شارك بشكل مباشر في اختيار المواضيع و/أو التصحيح والإشراف على الجائزة، فهو يزور موريتانيا سنويا لهذا الغرض، و/أو لإلقاء محاضرات في الجامعة، دعما لقسم الرياضيات في كلية العلوم والتقنيات.
وعلى الرغم من إعجابه بالتجربة التونسية في الاستفادة من العقول المهاجرة، إلا أن الظروف العامة في موريتانيا لم تسمح، حتى الآن، للمغتربين بتقديم ما يودون تقديمه من خِدمات معرفية وأكاديمية للوطن.
مع صديقه عالم الرياضيات توكا جاغانا في حفل تسليم جوائز مسابقة يحيى ولد حامد 2023 بنواكشوط
الشعر بين بحور الخليل و”بحر المنطق”
العارفون بالأستاذ محمدن ومجالسوه يلاحظون، عندما يخوضون معه في المجالات الثقافية والأدبية، اطلاعا واسعا وباعا طويلا في رواية الشعر وحكايات الشعراء، كما يقدم انطباعات ومختارة دالة على ذائقته الأدبية.
وقد أشار الأستاذ محمد ولد سيدي (اطليل) إلى نصوص شعرية للأستاذ محمدن. ومع أن هذه المعلومة لا تبدو غريبة إلا الأستاذ محمدن لا يقر بها.
وفي تعريفه للرياضيات، يحضر الشعر، حيث يعرفها بأنها شعر في بحر المنطق.
في مكتبه بجامعة غيسن، 2024.
——————————
1- مقابلة مع السيد الطالب أخيار اجيه الشيخ ماء العينين يوم 5 أغسطس 2024.
2- مقابلة مع البروفسور محمدن ولد أحمدو، يوم 3 أغسطس 2024.
3- مقابلة مسجلة مع البروفسور محمدن ولد أحمدو، نشرت يوم 14 يوليو 2021 على وكالة الأخبار المستقلة.
4- السيرة العلمية والذاتية للأستاذ محمدن
5- السيرة العلمية والذاتية للأستاذ محمدن
6- صفحة الأستاذ محمد في Researchgate
7- أرشيف جائزة شنقيط
8- صفحته في جامعة غيسن
9- كرسي عباس بحري
10- صفحة الأستاذ بالمركز الدولي للرياضيات البحتة والمطبقة
11- المؤسسة الألمانية للبحوث